ما هذا الوجع الذي يعتصر قلبي، ويأبى أن يبارحني، ما هذا
الحزن الذي أطبق بخناق حياتي، وحجب عنها نسائم الانشراح، ما هذه الحسرة التي لونت
أيامي، ودثرتها بالسواد. كنت قبلاً أحس بالحزن بل كنت بطلاً لكثير من الروايات
الحزينة في هذه التراجيديا المسماة دنيا، ولكن هذا الألم وهذا الحزن مذاقهما مختلف
جداً.
أمي أحتاجك كثيراً، وأشتاقك أكثر، أحتاج دعواتك التي حفظتني (من الحديد ومن الطريق ومن ابن آدم البعيق، دعوات صاد الما بتنصاد، دعوات كاف الما بتنخاف)، لمن تركتني يا أمي، الدنيا بدونك لا تطاق، أشفق على نفسي منها، بعد أن فقدت من يشفق عليّ، أحن على نفسي بعد أن فقدت حنانك، أبكي نفسي، بعد أن فقدت المرأة الوحيدة التي أثق بحبها لي، واثق بصدق دموعها عندما تذرفها من أجلي.
يحدثني الكثيرون عن قيمة الصبر والجلد، عند ملاقاة المصائب والاحن، يسهبون في الحديث، أفهمهم وأعي ما يقصدون، ولربما أستطيع الحديث عنهما، بمفردات أعمق وأفصح، ولكن كليهما الصبر والجلد لم يعيناني في مصيبتي فيك، لا تستحق الدنيا أن تعاش بعدك، لا معنى لها ولا طعم، فارقتها الطمأنينة الا غير رجعة، والطيبة أمست مصلوبة في جنباتها، وغاب الفرح.
أمي أحتاجك كثيراً، وأشتاقك أكثر، أحتاج دعواتك التي حفظتني (من الحديد ومن الطريق ومن ابن آدم البعيق، دعوات صاد الما بتنصاد، دعوات كاف الما بتنخاف)، لمن تركتني يا أمي، الدنيا بدونك لا تطاق، أشفق على نفسي منها، بعد أن فقدت من يشفق عليّ، أحن على نفسي بعد أن فقدت حنانك، أبكي نفسي، بعد أن فقدت المرأة الوحيدة التي أثق بحبها لي، واثق بصدق دموعها عندما تذرفها من أجلي.
يحدثني الكثيرون عن قيمة الصبر والجلد، عند ملاقاة المصائب والاحن، يسهبون في الحديث، أفهمهم وأعي ما يقصدون، ولربما أستطيع الحديث عنهما، بمفردات أعمق وأفصح، ولكن كليهما الصبر والجلد لم يعيناني في مصيبتي فيك، لا تستحق الدنيا أن تعاش بعدك، لا معنى لها ولا طعم، فارقتها الطمأنينة الا غير رجعة، والطيبة أمست مصلوبة في جنباتها، وغاب الفرح.
لن يغسل الدمع الحزن المطبوع في القلوب، أصبح الحزن هو
فلسفة الحياة، أصبح عنوان كتابها واللون الذي صبغت به الصفحات بين دفتيه، ليتني
فهمت مبكراً، كنت دوماً أحس بحزنٍ مبهم غامض لا أعرف كنهه، صدمتني كثيراً الحياة
بفقد الأحباء تارةً، وخيانتهم تارةً أخرى، فظننت أنني استنفدت رصيدي من الحزن، ولم
أكن أدري أن الحزن الحقيقي كان مدخراً لي من القدر. احساس باللا جدوى دثّر أفراحي
العارية، قلّم أظافر آمالي وطموحاتي، وفقأ عين حاضري. انها مأساة الوجود.
أعرف أن الموت حق، كما أعرف أن الحياة حق أيضاً، ووأعلم أنها نهاية كل كائن، ولكنني كنت أفكر في الموت كشئ مجرد غير ملموس، حتى لمسته وشممت رائحته، فعرفت أن اللغة لم تتوصل لمفردات تعبر عن معنى الفقد حقيقةً، لم تتوصل لمفردات تعبر عن الحزن، فأصبحت الدموع هي أصدق تعبير ولكنها لن تغسل الحزن المتشبث بالقلب.
أعرف أن الموت حق، كما أعرف أن الحياة حق أيضاً، ووأعلم أنها نهاية كل كائن، ولكنني كنت أفكر في الموت كشئ مجرد غير ملموس، حتى لمسته وشممت رائحته، فعرفت أن اللغة لم تتوصل لمفردات تعبر عن معنى الفقد حقيقةً، لم تتوصل لمفردات تعبر عن الحزن، فأصبحت الدموع هي أصدق تعبير ولكنها لن تغسل الحزن المتشبث بالقلب.
ارتمى الصبر بجواري وتمدد عندما علمت بحقيقة مرض أمي،
ولم أكن أعلم بأنني سأحتاج ملازمته لي ما تبقى من عمري، ربما خدعني ضوء الأمل الذي
كان يتراقص أمام ناظري، وعندما كان يتحدث لي الاخصائي واضعاً ورقة أمامه يخطط
فيها، رأيته وكأنه يخرج لسانه لضوء الأمل، وحتى آخر لحظة وهي تحتضر لم يخبو ذلك
الضوء، وعندما أسلمت الروح الى بارئها رفعت رأسي مستنجداً بذلك الضوء، فوجدته قد
انطفأ فتيقنت أنني فقدت أمي الى غير رجعة، فدفنت وجهي على صدر الصبر عله يمكنني من
مواصلة المسير في هذه الحياة، وفي تلك اللحظة أفاقت الذكريات من غفوتها وحاصرتني،
وددت في كثير من المرات لو رجع الزمن القهقري، لأعدل في بعض مشاهد حياتي، وفتحت لو
أبواباً للشيطان لم يغلقها الا آخر دعاء سمعته من أمي وهي تحتضر (الله يصبركم على
الراجيكم).
ليتها تركت لي بعض صبرها بدلاً من صبري الذي يربت على أكتافي حيناً، ويتملكه اليأس حيناً آخر عندما يصرعه حزني، كانت تتمتم بكلمات لا أميزها، فأسألها ماذا تقولين، فترد وابتسامة طمأنينة ورضا مرسومة على وجهها الوضئ (قلت الحمد لله آلاف آلاف لي يوم الوقاف)، فأبتسم لها نفس الابتسامة التي كنت أتأكد كل مرة من ارتدائها قبل أن أدخل عليها، منذ أن علمت بمرضها، والتي تجعلني أقف أمام المرآة مدة أطول حتى يتسنى لي تثبيتها في وجهي الذي كانت أعرض منه مع ان العبوس كان ضيقاً جداً عليه. عرفت معنى التوكل واليقين والرضا، عرفت كيف يكون الصبر، وعرفت كنه سر الحياة، الحزن ذلك السر الذي من السهل أن يعرفه الجميع.
ليتها تركت لي بعض صبرها بدلاً من صبري الذي يربت على أكتافي حيناً، ويتملكه اليأس حيناً آخر عندما يصرعه حزني، كانت تتمتم بكلمات لا أميزها، فأسألها ماذا تقولين، فترد وابتسامة طمأنينة ورضا مرسومة على وجهها الوضئ (قلت الحمد لله آلاف آلاف لي يوم الوقاف)، فأبتسم لها نفس الابتسامة التي كنت أتأكد كل مرة من ارتدائها قبل أن أدخل عليها، منذ أن علمت بمرضها، والتي تجعلني أقف أمام المرآة مدة أطول حتى يتسنى لي تثبيتها في وجهي الذي كانت أعرض منه مع ان العبوس كان ضيقاً جداً عليه. عرفت معنى التوكل واليقين والرضا، عرفت كيف يكون الصبر، وعرفت كنه سر الحياة، الحزن ذلك السر الذي من السهل أن يعرفه الجميع.
تناثرت شظايا الفرحة على أديم حياتي، كنستها بتعاستي
ورميتها في مزبلة تأريخي، ناحت الكلمات وهي تخرج من فمي مخنوقة بالعبرات، وتأكد لي
ما قبل الفقد يفرق عما بعده، فرق أن تعيش الحياة رغبةً فيها، وأن تعيشها واجباً
محتوماً، أبحث عن زادٍ لما تبقى، عن هدف، أو حتى عن وطن، لم يتبقى من الأماني سوى
النحيب، وذكريات ضاقت عليها رحابة صدر الحاضر، فتضجر منها وسخر، كل ما تعلمته وقف
تأدباً من تأثير سطوة الحزن، شردت الأمال وفزعت من الفقد العظيم، وانحنى ظهر الحلم.
حاولت أن أستوقف مشاهد من حياتي الراكضة لتأخذ ركناً قصياً في دولاب الماضي، لمت نفسي على التقصير كثيراً وعنفتها، لم تعترض أمي على قرار هجرتي، بل قالت (وداعة الله) ولكنها لم تستطع أن تخفي وجعاً كنت دوماً سببه، وخوفاً علي ما فتئت أضمر نيرانه في صدرها، كان موعدنا سبتمبر لنذهب سوياً لرحلة علاجها، جاءتني كلماتها عبر الهاتف، تطالبني بعدم المجئ خوفاً علي من تداعيات تلك الانتفاضة المجيدة، وهزمتني دموعها على الشباب الذي صرعته آماله بوطن، قبل أن يصرعه رصاص القتلة، بكتهم وكأنها تبكيني، وبكيتها كأنني أبكي الوطن
حاولت أن أستوقف مشاهد من حياتي الراكضة لتأخذ ركناً قصياً في دولاب الماضي، لمت نفسي على التقصير كثيراً وعنفتها، لم تعترض أمي على قرار هجرتي، بل قالت (وداعة الله) ولكنها لم تستطع أن تخفي وجعاً كنت دوماً سببه، وخوفاً علي ما فتئت أضمر نيرانه في صدرها، كان موعدنا سبتمبر لنذهب سوياً لرحلة علاجها، جاءتني كلماتها عبر الهاتف، تطالبني بعدم المجئ خوفاً علي من تداعيات تلك الانتفاضة المجيدة، وهزمتني دموعها على الشباب الذي صرعته آماله بوطن، قبل أن يصرعه رصاص القتلة، بكتهم وكأنها تبكيني، وبكيتها كأنني أبكي الوطن
كنت أعتقد أن الموت هو أصعب حقيقة، يمكن أن يواجهها
الانسان، ولكنني اكتشفت أن الحياة هي الأصعب، مواجهة الحياة وحقيقتها أكبر مغامرة
وتحدي للانسان، خصوصاً وأن مرادفها الموت، وكما كانت تقول أمي (خربانة أم بنايةً
قش)، لم أعي ذلك الخراب الا وأنا أواريها الثرى، وأرفع يدي الى السماء، طالباً لها
الرحمة والمغفرة والعفو من الحي الدائم، حقيقة أن تعيش وأنت حتماً الى زوال،
وحقيقة أنك يمكن أن تفقد أحبائك في أي لحظة، وحقيقة أن تعيش في دنيا هم لا يتنفسون
هوائها، حقيقة أن تصدق أنهم ذهبوا الى غير رجعة. مواجهة حقيقة الحياة تجعلك تستسهل
الموت، وتتمناه ولكن تتمناه موتاً حلالاً، حتى يمكنك من ملاقاة من تحب في الدار
الأبدية.